محاولة أخرى لتقديم نفسي | أرشيف

حسين البرغوثي (1954 - 2002)

 

المصدر: «مجلّة مشارف».

الكاتب (ة): حسين البرغوثي. 

زمن النشر: 1 أيلول 1995. 

 


 

قدّمت نفسي لنفسي، ولم أزل منذ أزمنة سحيقة. فكيف أعيد تقديمها للآخر؟ ربّما كوجه من الخارج. ولكنّني في مرآة نفسي وجه داخليّ مسافر دائمًا، والمحطّة القديمة منسيّة، لا يستفزّني إليها رجوع. فما كنته كنته، وفعلت فيه وبه ما فعلت. الرغبة في ’تفسير‘ أنايَ قديمة أيضًا. وهاجسي التغيير وليس التفسير، واللغة سرطان يمشي على الرمل، تاركًا خطوطًا منحنية ومقطّعة، وفكّ رموزها ليست له ’شيفرة‘ واحدة. وبالتالي فكلّ ’تقديم‘ تقليص، وأمّا الشعر بوجه كمّيّ غير ’مقلّص‘ إلى ’تفسيراته‘، إنّه ليس ’معنى‘ تجربة، بل التجربة ذاتها.

بالنسبة لي، هناك شعر – ذاكرة، يستمدّ حبره من «لغة موازية»، متذكّرة، مفسّرة؛ وهناك شعر قيمته كلّها في الزلزلة، ونتاج زلزلة. أقصد أنّه ’توتّر‘ يلمح ’خلف‘ أو في، أو تحت ’الموجودات‘ وجودًا لغزًا، مذهلًا، ومرعبًا، ومنتشيًا أيضًا. الموجودات إشارات، رموز، رسائل للوجود القابع في نفسه. وما هو هذا ’الوجود؟‘ لا أملك إلّا تفسيرات له. أعني أنّني بمجرّد أن ’أسمّيه‘ حتّى بـ ’الوجود‘، أحيله إلى ’موجوديّ‘، إلى نصّ، وبالتالي فإنّه يتهرّب من كلّ محاولة للقبض عليه، ويبوح أيضًا عن نفسه في كونه يحلّ أيضًا في ’التفسير‘ و’المحاولة‘. يفقد كلّ موجود قدرته على أن يستوعب الوجود، تمامًا كما أنّ كلّ كائن حيّ ليس إلّا برهانًا على فشله في أن يجسّد «الحياة». ومع ذلك، فالحياة فيه وله وبه أيضًا. ولذا أهرب من الوجود للموجود ومن الموجود للوجود. بلا قدرة على أن أستقرّ. هذا التوتّر بين الموجود والوجود لا يكشف عن نفسه في زمن الطمأنينة و«الضمير السعيد»، بتعبير «هيغل»، حين تتكوّن وجهات نظر ’ثابتة‘، ’منعزلة‘، تسمح للإنسان بالسلوك سلوكًا ’معقولًا‘ في الحياة. في عالم ’الوعي المشترك‘، حيث ينعزل كلّ موجود عن ’الحياة‘ و’الوجود‘ في قوقعة خاصّ به، لا يملك الشاعر إلّا خلخلة النفس، إدخال ذاته في الطوفان، وحتّى تذويبها والتحوّل إلى شظايا وانفجارات، إلى حلم مفكّك، عفويّ، حرّ، لا خيوط تلملم وجوده في "كلّ ما".

ولكن عندما تتفكّك الأشياء ذاتها، حين يجتاحها الطوفان والدمار، حين تتساقط كالمرايا المهشّمة، حين يدرك ’العالم‘ أنّ جوهره المستقرّ ’يتخلخل‘ ويهتزّ ويتزتزل، لا أحد من ذوي ’الطمأنينة‘ و«الضمير السعيد» يتعرّف على نفسه وعالمه. أمّا الشاعر فإنّ الزلزلة وطنه – الأمّ، حركة الأشياء ترفعه نحو مقامات أعلى، أو أنّ حركة ذاته ترفع الأشياء إلى علوّ شاهق لا يستقرّ بدون ’الهاوية‘ - ما هو العلوّ إن لم يكن طريقة أخرى لخلق ’الهاوية‘؟

والشعر بالنسبة لي حوار مرعب، مستفزّ، وله نشوته، بين القمم والهاوية، بين الحلم واليقظة، بين الموت والحياة، بين الموجود والوجود. إنّه حدس بأنّ كلّ الكون صدفة وبأنّ الصدفة لا تفسّره. بأنّ ’العابر‘ و’المستقرّ‘ وجهان للتفسير، وليسا ’تفسيرًا‘. أعني بأنّ الشعر الحقيقيّ رؤيا تشبه رؤية العدم في قبضة من تراب، ورؤية الربّ على أصغر برعم ورد، ذهول مطلق من ’الموجود‘ و’الوجود‘ يظهر في محاولة دائمة لإزاحة كلّ تفسير، وكلّ معنى، وكلّ ’رابطة‘ تستألف ’الموجود‘ و’الوجود‘. وحتّى إزاحة لهذه اللغة الّتي تسمح لنا بـ "تسمية الأشياء"، وبالتالي البحث الدائم عن ’اللا مُسمّى‘، عمّا لا اسم له، نوع من دفع ’الحدّ‘ وراء نفسه. هذا بحث محكوم عليه بالفشل، والشعر كتابة عن هذه «الحدود المنزاحة» دائمًا، الّتي لا استقرار فيها أو لها، إنّه أرادة لتصوّر ’الوجود‘ "بلغة نيتشه"، إرادة قوّة، إرادة تشبه غريزة هذا الحيوان العجيب، الخلند ’بالعامّيّة‘، الّذي يحفر سطح الأرض للدخول إلى "دهليز فيها يوسّعه باستمرار، وبعد مدّة يجد نفسه مرّة أخرى على ’السطح‘".

أعني بأنّ «المكان الذهنيّ»، هذا ’الوعي‘ المسمّى بـ «وعي الذات»، أو «الروح»... إلخ، ليس إلّا فتحة في الكون على الكون والشاعر يوسّع «الدهليز»، داخلًا أعماقًا لم يرها أحد من قبل، خارجًا نحو سطوح لم يرها هو من قبل. وكثيرًا ما يحتاج ليس لـ ’الحياة‘ فقط، بل لتحويل «التجربة الحيّة» إلى «معرفة». معرفة تشبه اللذّة، لذّة الكشف، لذّة إعادة الصياغة، لذّة القوّة، وإرادة «تصوّر الوجود»، والانزياح الدائم في «الحدود» غير مفهوم لمن يتخيّل الشعر "عيشًا ضمن الحدود"، وليس خلقًا لحدود. ولا أبلد من مطالبة الخلند بعدم ’الحفر‘ إلّا مطالبة الجسد بعدم الاشتهاء. بالنسبة للشاعر الحقّ حتّى «الذات» تبدو تشبيهًا، مجازًا، وجهًا عابرًا، وليست ’شيئًا‘ أو ’مستقرًّا‘.

أعني بأنّ ’الشيء‘، أيّ ’شيء‘، ليس إلّا «الثقة» به، الآراء عنه، التفسيرات المقدّمة له، رؤيانا له. إنّه ظلّ «الفكرة»، و"ما هي الفكرة"؟ بالنسبة لي، الفكرة مساحة مكانيّة، فتحة في المكان، انتشار غامض. إنّها «مكان آخر»، كالأحلام، والشعر سريان من مكان لمكان. انبثاقات متوالية تسمّى أحيانًا بـ «التشبيه»، لأنّ الأمكنة، كلّما ’أشبهت‘ علينا، تبدو وكأنّها ’تشبه‘ أمكنة أخرى، سبق لنا ورأيناها. ونردّ «المكان الجديد» دائمًا إلى «المألوف» فينا. هذا يشبه تدجين الحيوانات البرّية، أي «الاستئلاف»، الشعر الحقّ يرى ’المألوف‘ برّيًّا أكثر ممّا يرى البرّيّ «مألوفًا». حتّى المألوفيّة تتساقط عن الوجه، ويبدو الشاعر الّذي صار سفرًا بأنّه "يصطنع العاديّة"، يحاول أن يكون «مألوفًا»، ربّما بحثًا عن سفر آخر، لأنّ ’مهنته‘ هي «استئلاف البرّيّ»، وأيضًا إطلاق سراح الشيء البرّيّ من ’استئلافه‘.

الشعر هو «الحقيقة» لأنّ «الحقيقة» مثلما أشار نيتشه، مجرّد «تشبيه منسيّ». الشاعر لا ’ينسى‘ الوجود كتشبيه ولكنّه ينسى باستمرار أيّ ’تشبيه‘ هو بالضبط. والبحث عن ’تشابيه‘ بحث عن حقائق من جهة، وتعرية لكلّ «حقيقة مألوفة» من ذاتها لتسترجع توهّجها كـ ’تشبيه‘ أصليّ، وهكذا تلاحق «الوجود»، مثل ’الخلند‘، يحفر أمكنة تشبه الأمكنة. حاوِلوا، مرّة، فهم حيرة الشاعر العربيّ القديم الّذي فرّق بين «بيت الشعر»، بكسر السين، و«بيت الشعر»، بنصب السين. الإنسان العاديّ يقيم في البيت الثاني، و’الشعر‘ بالنسبة له زائد عن الحاجة. ربّما. أمّا الشاعر فيقيم في «بيت الشِّعر»، في ’تشبيه‘، ويرى البيت ’الحقيقيّ‘ زائدًا عن الحاجة. إلّا إذا كان ’تشبيهًا آخر‘، أي ’غير حقيقيّ‘. يذهلني أنّني عندما أفتح الباب ليلًا لأدخل ’بيتي‘ وأنام، أجد نفسي أدخل بطريقة أخرى تختلف تمامًا عن دخولي باب «تشبيه شعريّ». ولكنّ الفرق بين ’البابين‘ و’البيتين‘، كالفرق بين العالم الّذي نحن فيه، دهليزنا المتكوّن من ثلاثة أبعاد، من طول وعرض وارتفاع، وبين عالم آخر يتكوّن من ’بُعدَين‘ فقط؛ من سطح مطلق له طول وعرض، ولكن لا عمق فيه ولا ارتفاع له.

في ديوان «الرؤيا» (1989)، لغة تحاول أن تكون ببعدين فقط، بلا ’عمق‘، أن تبدّد هيمنة ’العمق‘ على ’السطح‘، أي "تسطيح العالم الداخليّ»، تسطيح «المكان الذهنيّ»، إنّها رجعة «الخلند» من الأعماق إلى السطوح المحصّنة، بهجة الغوّاص الّذي اكتشف بأنّ ’العمق‘ أعمق من أن نتكلّم عنه بعمق!

لاحقًا، في «ليلى وتوبة: قصائد من المنفى إلى ليلى الأخيليّة» (1992)، جرّبت تحويل «التسطيح» السابق إلى «تعميق»، أي إثقال السطح بتفسيرات، بـ ’فكر‘، و’تركيزه‘، و’تكثيفه‘، بحيث يصبح ’التشبيه‘ سطحًا منقّطًا بالأسود، نستطيع أن نرى ’عبره‘ وكأنّه لوح من الزجاج. وفي نفس الوقت تضع فوق هذا الزجاج ’شبكًا‘ أسود بحيث ترى فقط عبر ’فتحات‘ في السطح، وليس عبر السطح كلّه. فلنقل أنّ ’السطح‘ هنا مرشوش بفكر كالحبر الأسود، في غاية الكثافة، ولكن ليس كلّه مغطّى برذاذ الحبر؛ هذا «التنقيط» بصريًّا، استحضار للعمق في السطح، أي ليس ’عمقًا‘ كلاسيكيًّا، 

في ديوان لم ينشر بعد «توجد ألفاظ أوحش من هذه»، أرسم سطحًا يشبه جليدًا متجمّدًا في الشارع ليلًا، وسقط عليه المطر ففتح فيه فتحات جعلته هشًّا، يتكسّر تحت القدمين، مدرًّا موسيقى من نوع غريب. وأخيرًا، كتبت نصًّا يجمع كلّ رؤياي للسطح – العمق، في غاية الكثافة، يشبه نهرًا من التشابيه أغواره الروحيّة والفكريّة مكثّفة جدًّا، سُمٌّ مقطّر وعطر لم يستنشق بعد، وسمّيته «حجر الورد»، وهو الحجر الّذي كُتِبَتْ عليه اللغة الهيروغليفيّة، وفكّ ألغازه فكّ طلسم الثقافة الفرعونيّة القديمة. وتبعه نصّ آخر، «الفراغ الّذي رأى التفاصيل»، وبعض قصائد لها اتّجاه ما بعد حداثيّ.

كتبت سابقًا «أزمة الشعر المحلّيّ» (1979)، «سقوط الجدار السابع: الصراع النفسيّ في الأدب»، ورواية «الضفّة الثالثة لنهر الأردن».

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.